كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَتَوَفَّاكُمْ يُنِيمُكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ، أَيْ فِي النَّهَارِ، فَأَرَادَ بِالْوَفَاةِ هُنَا النَّوْمَ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَا اسْتُعِيرَ الْبَعْثُ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ لِيَتِمَّ التَّقْرِيبُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ.
وَمَعْنَى جَرَحْتُمْ كَسَبْتُمْ، وَأَصْلُ الْجَرْحِ تَمْزِيقُ جِلْدِ الْحَيِّ بِشَيْءٍ مُحَدَّدٍ مِثْلَ السِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَالظُّفُرِ وَالنَّابِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [45] .
وَأُطْلِقَ عَلَى كِلَابِ الصَّيْدِ وَبُزَاتِهِ وَنَحْوِهَا اسْمُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ الصَّيْدَ لِيُمْسِكَهُ الصَّائِدُ.
قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [4] . كَمَا سَمَّوْهَا كَوَاسِبَ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
غُضْفًا كَوَاسِبَ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا فَصَارَ لَفْظُ الْجَوَارِحِ مُرَادِفًا لِلْكَوَاسِبِ وَشَاعَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَسْبِ اسْمُ الْجَرْحِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
[الجاثية: 21] .
وَجُمْلَةُ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الْإِمْهَالِ، أَيْ وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَمَا بَعَثَكُمْ فِي النَّهَارِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّكُمْ تَكْتَسِبُونَ فِي النَّهَارِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَيَكْتَسِبُ بَعْضُكُمْ بَعْضَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ كَالْمُؤْمِنِينَ.
وَوَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ تَعَالَى مَا يَكْسِبُ النَّاسُ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ وَقْتُ أَكْثَرِ الْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَفِي الْإِخْبَارِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَقَعُ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنِ اكْتِسَابِ مَا لَا يَرْضَى اللَّهُ بِاكْتِسَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فَتَكُونُ (ثُمَّ) لِلْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ فَتَعْطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَكْتَسِبُونَ مِنَ الْمَنَاهِي ثُمَّ يَرُدُّكُمْ وَيُمْهِلُكُمْ. وَهَذَا بِفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ أَنْسَبُ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ لِلنَّهَارِ. وَالْبَعْثُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ لِأَنَّ الْبَعْثَ شَاعَ

الصفحة 276