كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَفَادَ الْقَصْرَ، فَأَفَادَ اخْتِصَاصَهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَعْثِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْشَوُا الْأَصْنَامَ، وَلَوْ أَرَادُوا الْخَيْرَ لِأَنْفُسِهِمْ لَخَافُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَرْضَاتِهِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ إِضَافِيٌّ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقادِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ.
وَالْعَذَابُ الَّذِي مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الصَّوَاعِقِ وَالرِّيحِ، وَالَّذِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ مِثْلُ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَالطُّوفَانِ.
ويَلْبِسَكُمْ مُضَارِعُ لَبَسَهُ- بِالتَّحْرِيكِ- أَيْ خَلَطَهُ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَلْبِسَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ وَمَرْجِهِ، أَيِ اضْطِرَابُ شُؤُونِهِمْ، فَإِنَّ اسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ تُشْبِهُ انْتِظَامَ السِّلْكِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ النَّاسِ نِظَامًا. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَالْفَوْضَى تُشْبِهُ اخْتِلَاطَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَرْجًا وَلَبْسًا. وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْأَمْنِ وَدُخُولِ الْفَسَادِ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمَرْجِ، وَهُوَ الْخَلْطُ فَيُقَالُ:
هُمْ فِي هَرْجٍ وَمَرْجٍ، فَسُكُونُ الرَّاءِ فِي الثَّانِي لِلْمُزَاوَجَةِ.
وَانْتَصَبَ شِيَعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَلْبِسَكُمْ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي غَرَضٍ أَوْ عَقِيدَةٍ أَوْ هَوًى فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 159] .
وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ [الصافات: 83] أَيْ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ.
وَتَشَتُّتُ الشِّيَعِ وَتَعَدُّدُ الْآرَاءِ أَشَدُّ فِي اللَّبْسِ وَالْخَلْطِ، لِأَنَّ اللَّبْسَ الْوَاقِعَ كَذَلِكَ لَبْسٌ لَا يُرْجَى بَعْدَهُ انْتِظَامٌ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لِأَنَّ مِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ اللَّبْسِ التَّقَاتُلَ.
فَالْبَأْسُ هُوَ الْقَتْلُ وَالشَّرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: 81] . وَالْإِذَاقَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَلَمِ.
وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَخِيرُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَاقُوا بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَزَوَاتٍ كَثِيرَةٍ.

الصفحة 284