كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

أَيْ ذَكِّرْهُمْ بِهِ إِبْسَالَ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ فَهُوَ بِالتَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ هُمَا «هُمْ» وأَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ. وَخُصَّ هَذَا الْمَصْدَرُ مِنْ بَيْنِ الْأَحْدَاثِ الْمُذَكَّرِ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ تُبْسَلَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْجَرِّ تَعْلِيلًا لِلتَّذْكِيرِ، فَهُوَ كَالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا تُبْسَلَ نَفْسٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [176] . وَجُوِّزَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمْ أَكُنْ مِنْهُ عَلَى ثَلَجٍ.
وَوَقَعَ لَفْظُ (نَفْسٌ) وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَقُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الإنفطار: 5]- أَيْ كُلُّ نَفْسٍ- عَلِمَتْ نَفْسَ مَا أَحْضَرَتْ، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ.
وَالْإِبْسَالُ: الْإِسْلَامُ إِلَى الْعَذَابِ، وَقِيلَ: السَّجْنُ وَالِارْتِهَانُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا صَالِحَانِ هُنَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَسْلِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْحَرَامُ. قَالَ ضَمْرَةُ النَّهْشَلِيُّ:
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى ... بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلَامَتِي وَعِتَابِي
وَأَمَّا الْإِبْسَالُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْكِلَابِيِّ:
وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقِ
وَمَعْنَى: بِما كَسَبَتْ بِمَا جَنَتْ. فَهُوَ كَسْبُ الشَّرِّ بِقَرِينَةِ تُبْسَلَ.
وَجُمْلَةُ: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَفْسٌ لِعُمُومِ نَفْسٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ نَظَرًا لِكَوْنِ لَفْظِهِ مُفْرَدًا.
وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ. وَالشَّفِيعُ: الطَّالِبُ لِلْعَفْوِ عَنِ الْجَانِي لِمَكَانَةٍ لَهُ عِنْدَ مَنْ بِيَدِهِ الْعِقَابُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَلِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [14] ، وَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [48] .
وَجُمْلَةُ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ.

الصفحة 297