كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

بَدِيعًا يُقَابِلُ مَا يَتَضَمَّنُهُ مَعْنَى الْكُفْرِ بِهَا مِنْ إِنْكَارِهَا الَّذِي فِيهِ إِضَاعَةُ حُدُودِهَا.
وَالْقَوْمُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا برسالة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ. وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ فَسَّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْقَوْمَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَادَّعَى أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَامِلَ إِلَيْهِ.
وَوَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنِ اسْمِ (لَيْسَ)
وَخَبَرِهَا لِأَنَّ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ نَفْيٍ إِذْ هِيَ فَعْلٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ فَجُمْلَتُهَا تَدُلُّ عَلَى دَوَامِ نَفْيِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ، وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِ (لَيْسَ) لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَصَارَ دَوَامَ نَفْيٍ مُؤَكَّدًا.
وَالْمَعْنَى إِنْ يَكْفُرِ الْمُشْرِكُونَ بِنُبُوءَتِكَ وَنُبُوءَةِ مَنْ قَبْلِكَ فَلَا يَضُرُّكَ كُفْرُهُمْ لِأَنَّا قَدْ وَفَّقْنَا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ لِلْإِيمَانِ بِكَ وَبِهِمْ، فَهَذَا تَسْلِيَة للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمُعَادٍ الضَّمِيرِ: الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ.
[90]

[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.
جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قُصِدَ مِنِ اسْتِئْنَافِهَا اسْتِقْلَالُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا، وَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ التَّكْرِيرِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا: جُمْلَةِ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: 87] وَجُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَنْعَام: 89] . وَحَقُّ التَّكْرِيرِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.

الصفحة 354