كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ (أَيْ مِنْ أَيِّ دَلِيلٍ أَخَذْتَ أَنْ تَسْجُدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهَا حِكَايَةٌ عَن سُجُود دَاوُود وَلَيْسَ فِيهَا صِيغَة أَمر بِالسُّجُود) فَقَالَ: «أَو مَا تَقْرَأُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَكَانَ دَاوُود مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيئُكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فسجدها دَاوُود فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ» .
وَالْمَذَاهِبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَرَافِيُّ وَنَسَبُوهُ إِلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا تَكُونُ
أَحْكَامًا لَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَهَا إِلَيْنَا. وَالْحُجَّةُ عَلَى ذَلِك مَا
ثَبت فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَمْرِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الرُّبَيْعِ بِنْتِ النَّضْرِ حِينَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ عَمْدًا أَنْ تُكْسَرَ ثَنِيَّتُهَا فَرَاجَعَتْهُ أُمُّهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الرُّبَيْعِ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ،
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِلَّا مَا حَكَاهُ عَنْ شَرْعِ التَّوْرَاةِ بِقَوْلِهِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [الْمَائِدَة: 45] . وَمَا
فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:
أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي

[طه: 14] وَإِنَّمَا قَالَهُ اللَّهُ حِكَايَةً عَنْ خِطَابِهِ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَبِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْهُدَى مَصْدَرٌ مُضَافٌ فَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَلَا يُسَلَّمُ كَوْنُ السِّيَاقِ مُخَصِّصًا لَهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ. وَنَقَلَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ هَذَا.
وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ «الْإِعْرَابِ فِي الْحَيْرَةِ وَالِالْتِبَاسِ الْوَاقِعَيْنِ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ» (¬1) . وَفِي «تَوْضِيحِ» صَدْرِ الشَّرِيعَةِ حِكَايَتَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
¬_________
(¬1) مخطوط فِي مكتبتنا.

الصفحة 358