كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قَدْ جَاءُوا إِفْكًا وَزُورًا وَأَنْكَرُوا مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي أَجْيَالِ الْبَشَرِ بِالتَّوَاتُرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِثْلُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] . وَمِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مَنْ جَعَلَ هَذَا حِكَايَةً لِقَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مُعَيَّنٌ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
بَعْضُ الْيَهُودِ
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ الْقُرَظِيُّ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَمِينًا وَأَنَّهُ جَاءَ يُخَاصم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
. وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَهُ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ. وَمَحْمَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَهُ جَهْلًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ فَهُوَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ قَالَهُ لَجَاجًا وَعِنَادًا. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ هِيَ الَّتِي أَلْجَأَتْ رُوَاتَهَا إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَقْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: 89] الْآيَةَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ كَالْمُعْتَرِضَةِ فِي خِلَالِ إِبْطَالِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ.
وَحَقِيقَةُ قَدَرُوا عَيَّنُوا الْقَدْرَ وَضَبَطُوهُ أَيْ، عَلِمُوهُ عِلْمًا عَنْ تَحَقُّقٍ.
وَالْقَدْرُ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- مِقْيَاسُ الشَّيْءِ وَضَابِطُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عِلْمِ الْأَمْرِ بِكُنْهِهِ وَفِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ. يُقَالُ: قَدَرَ الْقَوْمُ أَمْرَهُمْ يَقْدُرُونَهُ- بِضَمِّ الدَّالِّ- فِي الْمُضَارِعِ، أَيْ ضَبَطُوهُ وَدَبَّرُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ» . وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، أَيْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا عَلِمُوا شَأْنَهُ وَتَصَرُّفَاتِهِ حَقَّ الْعِلْمِ بِهَا، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ قَدْرِهِ، وَالْإِضَافَةُ هُنَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْأَصْلُ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ.
وإِذْ قالُوا ظَرْفٌ، أَيْ مَا قَدَرُوهُ حِينَ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا شَأْنًا عَظِيما من شؤون اللَّهِ، وَهُوَ شَأْنُ هَدْيِهِ النَّاسَ وَإِبْلَاغِهِمْ مُرَادَهُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ،

الصفحة 362