كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

وَذَكَرَ مَنِ اسْتَخَفُّوا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أُوحِيَ إِلَيَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تَسْفِيهَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ مِنْهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاضْطِرَابِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعَ ذَلِكَ تَنْزِيه النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ حِينَ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 91] لِأَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَادِّعَاءِ الْوَحْيِ بَاطِلًا لَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ نَاحِيَةِ قَوْلِ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ «وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذْرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» .
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَمَسَاقُهُ هُنَا مَسَاقُ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ إِنْزَالَ الْكِتَابِ، وَهُوَ تَكْذِيبٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: 92] لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِخِصَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ عَقِبَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: 57] الْآيَةَ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [114] .
وافتراء: الِاخْتِلَاقُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ
فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] .
وَمَنْ مَوْصُولَةٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ كُلُّ مَنِ افْتَرَى أَوْ قَالَ، وَلَيْسَ

الصفحة 374