كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فَحَّاشًا وَلَا سَبَّابًا لِأَنَّ خُلُقَهُ الْعَظِيمَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ تَرْكَهُ مِنْ وَحْيِهِ الَّذِي يُنْزِلُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لِغَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ رُبَّمَا تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فَفَرَطَتْ مِنْهُمْ فُرُطَاتٌ سَبُّوا فِيهَا أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ «كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَوْثَانَ الْكُفَّارِ فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ» . وَهَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْفَقُهُ بِنَظْمِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ ضَعِيفٌ وَلَهُ مُنْكَرَاتٌ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ بِلَفْظِ وَلا تَسُبُّوا وَكَانَ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَجْهَرُوا بِسَبِّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَثَلًا. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: 110] . وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَانْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ سَادَتِهِمْ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَاطَبُوهُ بِمَا رَامَوْا،
فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يُرِيدُونَ أَنْ تَدَعَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ، وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَلَنَشْتُمَنَّ مَنْ يَأْمُرُكَ.
وَلَمْ يَقِلِ السُّدِّيُّ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
قَالَ الْفَخر: هَاهُنَا إِشْكَالَانِ هُمَا: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ

الصفحة 428