كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَقُولُونَ: عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ لِتَكُونَ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِقْدَامُ الْكُفَّارِ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.
وَأَقُولُ: يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْأَوَّلَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلنُّزُولِ فَإِنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَقَدَّمُ زَمَانَهُ ثُمَّ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ النَّازِلَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ أَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ أَجَابَ الْفَخْرُ بِمِثْلِ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الْأَنْعَام: 111]
الْآيَةَ. وَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الثَّانِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُ وَلذَلِك أَنْكَرُوا الرّحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الْفرْقَان: 60] . فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَمِّ آلِهَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ شَيْطَانًا يَأْمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبِّ الْأَصْنَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ لَمَّا فَتِرَ الْوَحْيُ فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ: مَا أَرَى شَيْطَانَهُ إِلَّا وَدَّعَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ الضُّحَى.
وَجَوَابُ الْفَخْرِ عَنْهُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ وَهُمُ الدَّهْرِيُّونَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَأَجْرَى اللَّهُ شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرَى شَتْمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْح: 10] » اهـ. فَإِنَّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدًا لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ نَقَائِصِ آلِهَتِهِمْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [179] . وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَاف: 195] فَلَيْسَ مِنَ الشَّتْمِ وَلَا مِنَ السَّبِّ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ وَلَيْسَ تَصَدِّيًا لِلشَّتْمِ، فَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلِمَاتِ الذَّمِّ وَالتَّعْبِيرِ لِآلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا رُوِيَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ جَاءَ رَسُولًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَهُ: «وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي

الصفحة 429