كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 7)

وَمَعْنَى كَوْنِ الْآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَأَسْبَابُ إِيجَادِ الْآيَاتِ مِنْ صِفَاتِهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ شُبِّهَتْ بِالْأُمُورِ الْمُدَّخَرَةِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ إبرازها أبرزها لِلنَّاسِ، فَكَلِمَةُ عِنْدَ هُنَا مَجَازٌ. اسْتُعْمِلَ اسْمُ الْمَكَانِ الشَّدِيدِ الْقُرْبِ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَادِ وَالِاسْتِئْثَارِ مَجَازًا مُرْسَلًا، لِأَنَّ الِاسْتِئْثَارَ مِنْ لَوَازِمِ حَالَةِ الْمَكَانِ الشَّدِيدِ الْقُرْبِ عُرْفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: 59] .
وَالْحَصْرُ بِ إِنَّمَا رَدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ظَنَّهُمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ فِي مَقْدُور النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ نَبِيئًا فَجَعَلُوا عَدَمَ إِجَابَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتِرَاحَهُمْ آيَةً أَمَارَةً عَلَى انْتِفَاءِ نُبُوءَتِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ لَا عِنْدَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَرَأَ الْأَكْثَرُ (أَنَّهَا) - بِفَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ» -. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) -.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يُؤْمِنُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَعَلَيْهِ فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَقَبَةُ حَيْرَةٍ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَلْنَأْتِ عَلَى مَا لَاحَ لَنَا فِي مَوْقِعِهَا وَنَظْمِهَا وَتَفْسِيرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ نَعْقُبُهُ بِأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ. فَالَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّ الْجُمْلَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا وَاوَ الْعَطْفِ وَأَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ. فَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهَا وَاوَ الْعَطْفِ فَأَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ، وَهِيَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.

الصفحة 436