كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 8-أ)
وَعُقِّبَ بِفِعْلِ: تَعالَوْا اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ السَّفَاسِفِ الَّتِي اهتمّوا بهَا وَهَذَا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: 177] الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 19] الْآيَةَ، لِيَعْلَمُوا الْبَوْنَ بَيْنَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ قَوْمَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، مِنْ جَلَائِلِ الْأَعْمَالِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا أَزْمَانَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ.
وَافْتِتَاحُهُ بِطَلَبِ الْحُضُورِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي إِعْرَاضٍ.
وَقَدْ تَلَا عَلَيْهِم أحكاما قد كَانُوا جَارِينَ عَلَى خِلَافِهَا مِمَّا أَفْسَدَ حَالَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا وَالْأَمْرِ بِضِدِّهَا.
وَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ بِهَا إِصْلَاحُ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا افْتتح بقوله:
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
الثَّانِي: مَا بِهِ حِفْظُ نِظَامِ تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الْأَنْعَام: 152] .
الثَّالِثُ: أَصْلٌ كُلِّيٌّ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْهُدَى وَهُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ
الْخُرُوجِ عَنْهُ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: 153] .
وَقَدْ ذُيِّلَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالْوِصَايَةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
الصفحة 156