كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 8-أ)
لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: 158] فَحَدَّ لَهُمْ بِذَلِكَ حَدًّا هُوَ مِنْ مَظْهَرِ عَدْلِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبُشْرَى مِنْ مَظَاهِرِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْجَزَاءُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، فَقَوْلُهُ:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَرَى عَلَى عُرْفِ الْقُرْآن فِي الِانْتِقَال بَيْنَ الْأَغْرَاضِ.
فَالْكَلَامُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَضَاهُمَا قَوْلُهُ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: 158] . وَهَذَا بَيَان لبَعض الْإِجْمَال الَّذِي فِي قَوْله: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وجاءَ بِالْحَسَنَةِ مَعْنَاهُ عَمِلَ الْحَسَنَةَ: شبه عمله الْحَسَنَة بِحَالِ الْمُكْتَسِبِ، إِذْ يَخْرُجُ يَطْلُبُ رِزْقًا مِنْ وُجُوهِهِ أَوِ احْتِطَابٍ أَوْ صَيْدٍ فَيَجِيءُ أَهْلُهُ بِشَيْءٍ. وَهَذَا كَمَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ التِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] .
فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَيَجُوزُ حَمْلُ الْمَجِيءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَجِيءٌ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ أَن يَجِيء بكتابتها فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ.
وَأَمْثَالُ الْحَسَنَةِ ثَوَابُ أَمْثَالِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، أَوْ مَعْنَاهُ تُحْسَبُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مِثْلَ الَّتِي جَاءَ بِهَا كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ»
وَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْحِسَابِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها.
وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ وَهُوَ الْمُمَاثِلُ الْمُسَاوِي، وَجِيءَ لَهُ بِاسْمِ عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ وَهُوَ عَشْرُ اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْأَمْثَالَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَسَنَةُ
الصفحة 195
215