كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 8-أ)

وَلِذَلِكَ قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ. علّم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ عَقِبَ مَا عُلِّمَهُ بِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُ هَدَاهُ ثُمَّ أَلْهَمَهُ الشُّكْرَ عَلَى الْهِدَايَةِ بِأَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ الْمَقُولِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِتَحْقِيقِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُرَائِي بِصَلَاتِهِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ: «أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . فَتَكُونُ (إِنَّ) عَلَى هَذَا لِرَدِّ الشَّكِّ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمِلْكِ، أَيْ هِيَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ:
إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: 161] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ.
وَجعل صَلَاتَهُ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ. وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَالنُّسُكُ حَقِيقَتُهُ الْعِبَادَةُ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْعَابِدُ النَّاسِكُ.
وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ يُسْتَعْمَلَانِ مَصْدَرَيْنِ مِيمِيَّيْنِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ، مِنْ حَيِيَ وَمَاتَ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: أَعْمَالُ الْمَحْيَا وَأَعْمَالُ الْمَمَاتِ، أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ مَعَ حَيَاتِهِ، وَمَعَ وَقت مماته. وَإِذا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمَعْنَى الزَّمَنِيَّ كَانَ الْمَعْنَى مَا يَعْتَرِيهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.

الصفحة 201