كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 8-أ)

وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَيْضًا عِبْرَةً وَعِظَةً، لِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ
وَالرِّفْعَةِ، وَلِجَعْلِ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالسَّعْيِ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لِمَنْ قَصَّرَ عَنْهَا وَالرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيُخْبِرَكُمْ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ دَرَجَاتِ النِّعَمِ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أَهْلَ النِّعْمَةِ أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدَّرَجَاتِ. وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِتَفَاوُتِ النِّعَمِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ.
وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ فِي أَرْبَابِهَا تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإِعْطَاءِ الْمُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ.
وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] . وَالْمُرَادُ بِهِ ظُهُورُ مَوَازِينِ الْعُقُولِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ بمواهب الله فِيهَا وَمَا يَسَّرَهُ لَهَا مِنَ الْمُلَائَمَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَرَاتِبَ النّاس، وَلَكِن سمّى ذَلِكَ بَلْوَى لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ، أَيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْمُقَدَّرَاتِ، فَهَذَا مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَالِامْتِثَالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعُ الْعِقابِ وَصفَة لَغَفُورٌ لِيُنَاسِبَ جَمِيعَ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ.

الصفحة 211