كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 8-ب)

التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَكُنْ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِهِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَتُذَكِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَقْصُودُ: تسكين نفس النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِغَاظَةُ الْكَافِرِينَ، وَتَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ لِفَائِدَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ فَلَا يكن فِي صرك حَرَجٌ إِنْ كَذَّبُوا. وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَبِعَدَمِ مُنَافَاةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى إِرَادَةِ جَمِيعِهَا وَذَلِكَ مِنْ مَطَالِعِ السُّوَرِ الْعَجِيبَةِ الْبَيَانِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرُوا مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، وَجَعَلُوا كِتابٌ خَبْرًا عَنْهُ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ، أَيْ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ، أَوِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ السُّورَةُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ كِتابٌ خَبْرًا عَنْ كلمة المص [الْأَعْرَاف: 1] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَتَانَةِ الْمَعْنَى.
وَصِيغَ فِعْلُ: أُنْزِلَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ اخْتِصَارًا، لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الَّذِي يُنْزِلُ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِمَا فِي مَادَّةِ الْإِنْزَالِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ لِمَلَائِكَةِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ اعتراضية إِذا الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أُنْزِلَ وَمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتُنْذِرَ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ كَمَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا
بِالْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص: 57] وَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى [النِّسَاء: 135] . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنَ الشَّوَاهِدِ:
اعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا
وَقَوْلِ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ:
كَقَائِلَةٍ إِنَّ الْحِمَارَ فَنَحِّهِ ... عَنِ الْقَتِّ أَهْلُ السِّمْسِمِ الْمُتَهَذِّبِ
وَلَيْسَتِ الْفَاءُ زَائِدَةً لِلِاعْتِرَاضِ وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَإِنَّمَا

الصفحة 12