كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 8-ب)

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ: فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى جُمْلَةِ:
أَهْلَكْناها، وَأَصْلُ الْعَاطِفَةِ أَنْ تُفِيدَ تَرْتِيبَ حُصُولِ مَعْطُوفِهَا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ حَاصِلًا مَعَ حُصُولِ الْإِهْلَاكِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذْ هُوَ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ، عُسِرَ عَلَى جمع من المسفّرين مَعْنَى مَوْقِعِ الْفَاءِ هُنَا، حَتَّى قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ الْفَاءَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ مِثْلَ شَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ: جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، وَهُوَ قَلْبٌ خَلِيٌّ عَنِ النُّكْتَةِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ فِعْلَ (أَهْلَكْنَاهَا) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] وَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ أَيْ فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ، وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِ مَعْنَاهُ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النَّحْل: 98] اسْتَعْمَلَ قَرَأْتَ مَكَانَ أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ مُسَبَّبَةً عَنْ إِرَادَتِهَا اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا بِقَرِينَةِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها
فِي مَوْضِعِ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا بِقَرِينَةٍ فَجاءَها بَأْسُنا وَالْبَأْسُ الْإِهْلَاكُ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ يَكُونُ لِإِفَادَةِ عَزْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، عَزْمًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْعَمَلُ، بِحَيْثُ يُسْتَعَارُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، لِلْإِرَادَةِ لِتَشَابُهِهِمَا، وَإِمَّا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ التَّرَيُّثِ، فَدَلَّ الْكَلَامُ كُلُّهُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ فَيَخْلُقُ أَسْبَابَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ فَيَحْصُلُ الْفِعْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَالْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِنَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا التّقارن بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْإِرَادَةِ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ حُصُولِ السَّبَبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُ السَّامِعِينَ الْمُعَانِدِينَ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحُلَّ غَضَبُ

الصفحة 20