كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

ذَلِكَ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْآخَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ طَفِيفَةٌ وَإِنْ هَوَّلَهَا الْفَرِيقَانِ، وَاصْطِلَاحُنَا أَسْعَدُ بِالشَّرِيعَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ كُلُّهَا مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ وَقُدْرَةِ الْمُكَلِّفِ.
وَقَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تَفْوِيضٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنَّا، وَإِعَادَةُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِظْهَارِ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَتَأْكِيدِ التَّعْرِيضِ الْمُتَقَدِّمِ، حَتَّى يَصِيرَ كَالتَّصْرِيحِ.
وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلِاهْتِمَامِ.
وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ وَسِعَ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُ رَبِّنَا كُلَّ شَيْءٍ.
وَالسِّعَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاسِعَ يَكُونُ أَكْثَرَ إِحَاطَةً.
وَفِي هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إدماج تَعْلِيم بعض صِفَاتِ اللَّهِ لِأَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْخُطَبَاءِ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَمَنْ تَبِعَهُ قَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ مُبَاشَرَةِ صَلَاحِ الْمَرْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [159] ، وَهَذَا تَفْوِيضٌ يَقْتَضِي طَلَبَ الْخَيْرِ، أَيْ: رَجَوْنَا أَنْ لَا يَسْلُبَنَا الْإِيمَانَ الْحَقِّ وَلَا يُفْسِدُ خَلْقَ عُقُولِنَا وَقُلُوبِنَا فَلَا نُفْتَنُ ونضل، وَرَجَوْنَا أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ مَنْ يُضْمِرُ لَنَا شَرًّا وَذَلِكَ
شَرُّ الْكَفَرَةِ الْمُضْمَرُ لَهُمْ، وَهُوَ الْفِتْنَةُ فِي الْأَهْلِ بِالْإِخْرَاجِ، وَفِي الدِّينِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْكُفْرِ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِ تَوَكَّلْنا لإِفَادَة الِاخْتِصَاص تَحْقِيقا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ وَنَبْذِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا مِنَ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي كِفَايَتِهِمْ أَمْرَ أَعْدَائِهِمْ، صَرَّحَ بِمَا يَزِيدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وَفَسَّرُوا الْفَتْحَ هُنَا بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ، وَقَالُوا: هُوَ لُغَةُ أَزْدِ عُمَانَ مِنَ الْيَمَنِ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفَتْحِ بِمَعْنَى النَّصْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يَتَحَاكَمُونَ لِغَيْرِ السَّيْفِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ النَّصْرَ حُكْمُ اللَّهِ لِلْغَالِبِ عَلَى الْمَغْلُوبِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: 87] ، أَيْ

الصفحة 11