كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَكُلُوا وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] فَكُلُوا فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ لَهُمْ بِمَا يُرَادِفُ فَاءَ التَّعْقِيبِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ التَّعْقِيبَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ الَّذِي تُفِيدُهُ وَاوُ الْعَطْفِ، وَاقْتُصِرَ هُنَا عَلَى حِكَايَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ، وَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ أَوْلَى بِحِكَايَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ، لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ فَنَاسَبَهَا مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمِنَّةِ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِ الْقَرْيَةِ، وَآيَاتُ الْأَعْرَافِ سِيقَتْ لِمُجَرَّدِ الْعِبْرَةِ بِقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ مُيِّزَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً [الْبَقَرَة: 59] وَعُوِّضَ عَنْهُ هُنَا بِضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ سَبَبِ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ أُشِيرَ إِلَى أُولَاهُمَا بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِلَى الثَّانِيَةِ بِحَرْفِ السَّبَبِيَّةِ، وَاقْتُصِرَ هُنَا عَلَى الثَّانِي.
وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [59] لَفْظُ فَأَنْزَلْنا وَوَقَعَ هُنَا لَفْظُ فَأَرْسَلْنا وَلَمَّا قُيِّدَ كِلَاهُمَا بِقَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ كَانَ مُفَادُهُمَا وَاحِدًا، فَالِاخْتِلَافُ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ.
وَعُبِّرَ هُنَا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وَفِي الْبَقَرَةِ [59] بِما كانُوا يَفْسُقُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى الْحَالُ فِي الْقِصَّتَيْنِ تَأْكِيدَ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ وَأُدِّيَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ [59] بُقُولِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، اسْتُثْقِلَتْ إِعَادَةُ لَفْظِ الظُّلْمِ هُنَالِكَ ثَالِثَةً، فَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَا يُفِيدُ مُفَادَهُ، وَهُوَ الْفِسْقُ، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ، فَهُوَ أَنْسَبُ بِتَذْيِيلِ التَّوْبِيخِ، وَجِيءَ هُنَا بِلَفْظِ يَظْلِمُونَ لِئَلَّا يَفُوتَ تَسْجِيلُ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَكَانَ تَذْيِيلُ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنْسَبَ بِالتَّغْلِيطِ فِي ذَمِّهِمْ، لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ يَقْتَضِيهِ.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَقَعْ لَفْظُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَوَجْهُ زِيَادَتِهَا هُنَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَبْدِيلَ الْقَوْلِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَأُجْمِلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمَّا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ نَاسَبَ إِرْهَابُهُمْ بِمَا يُوهِمُ أَنَّ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ هُمْ جَمِيعُ الْقَوْمِ، لِأَنَّ تَبِعَاتِ بَعْضِ الْقَبِيلَةِ تُحْمَلُ عَلَى جَمَاعَتِهَا.
وَقُدِّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [58] قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً عَلَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ [الْبَقَرَة: 58] وَعُكِسَ هُنَا وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْإِخْبَارِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، فَإِنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَاقِعٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ.

الصفحة 145