كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

بِهِ الشَّيْءُ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْمُعَامَلَةِ اللَّازِمَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالسَّوْمِ الْمُقَدِّرِ لِلشَّيْءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَظِيرُهُ، فَالْمَعْنَى يُجْعَلُ سُوءُ الْعَذَابِ كَالْقِيمَةِ لَهُمْ فَهُوَ حَظُّهُمْ.
وَسُوءُ الْعَذَابِ أَشَدُّهُ، لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ سُوءٌ فَسُوءُهُ الْأَشَدُّ فِيهِ.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ كُلَّمَا نَقَضُوا مِيثَاقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْوَعِيدُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَلُمَّ جَرًّا، كَمَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ فَفِيهِ «إِنْ لَمْ تَحْرِصْ لِتَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذَا النَّامُوسِ ...
وَيُبَدِّدُكَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَفِي تِلْكَ الْأُمَمِ لَا تَطْمَئِنُّ وَتَرْتَعِبُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا تَأْمَنْ عَلَى حَيَاتِكَ» وَفِي سِفْرِ يُوشَعَ الْإِصْحَاحِ 23 «لِتَحْفَظُوا وَتَعْمَلُوا كُلَّ الْمَكْتُوبِ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَلَكِنْ إِذا رجعتم ولصفتم بِبَقِيَّةِ هَؤُلَاءِ الشُّعُوبِ اعْلَمُوا يَقِينًا أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُمْ لَكُمْ سَوْطًا عَلَى جَنُوبِكُمْ وَشَوْكًا فِي أَعْيُنِكُمْ حَتَّى تَبِيدُوا حِينَمَا تَتَعَدَّوْنَ عَهْدَ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ» .
وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْوَصَايَا هِيَ الْعَهْدُ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى
إِعْرَاضِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ أَتْبَاعَ مِلَّةِ الْيَهُودِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا، فَإِذَا أَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ التَّأَذُّنِ وَدَخَلُوا فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ أَيْ لَهُمْ، وَالسُّرْعَةُ تَقْتَضِي التَّحَقُّقَ، أَيْ أَنَّ عِقَابَهُ وَاقِعٌ وَغَيْرُ مُتَأَخِّرٍ. لِأَنَّ التَّأَخُّرَ تقليل فِي التَّحْقِيق إِذِ التَّأَخُّرُ اسْتِمْرَارُ الْعَدَمِ مُدَّةً مَا.
وَأَوَّلُ مَنْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ «بُخْتَنَصَّرُ» مَلِكُ (بَابِلَ) . ثُمَّ تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ فَكَانَ أَعْظَمَهَا خَرَابُ (أُرْشَلِيمَ) فِي زمن (إدريانوس) انبراطور (رومة) وَلَمْ تَزَلِ الْمَصَائِبُ تَنْتَابُهُمْ وَيُنَفَّسُ عَلَيْهِمْ فِي فَتَرَاتٍ مَعْرُوفَةٍ فِي التَّارِيخِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ وَعْدٌ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَابُوا وَاتَّبَعُوا

الصفحة 156