كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْإِنْكَارُ أَوْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ يُقَرَّرُ عَلَى النَّفْيِ اسْتِدْرَاجًا لَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ عَاقِدًا قَلْبَهُ عَلَى النَّفْيِ ظَنَّ أَنَّ الْمُقَرِّرَ يَطْلُبُهُ مِنْهُ، فَأَقْدَمَ عَلَى الْجَوَابِ بِالنَّفْيِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا قَلْبَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُجِيبُ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ، فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [الْأَحْقَاف: 34] تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [130] .
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ، مِنْ تَسَلُّطِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ عَلَى ذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَأَعْرَاضِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ تَكْوِينِهَا، لَا تَبْلُغُ النُّفُوسُ إِلَى تَصَوُّرِهَا بِالْكُنْهِ، لِأَنَّهَا وَرَاءَ الْمُعْتَادِ الْمَأْلُوفِ، فَيُرَادُ تَقْرِيبُهَا بِهَذَا التَّمْثِيلِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ وَقْتِ تَكْوِينِهِ إِدْرَاكَ أَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَجَعَلَ فِي فِطْرَةِ حَرَكَةِ تَفْكِيرِ الْإِنْسَانِ التَّطَلُّعَ إِلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ، وَتَحْصِيلِ إِدْرَاكِهِ إِذَا جَرَّدَ نَفْسَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى فِطْرَتِهِ فَتُفْسِدُهَا.
وَجُمْلَةُ: قالُوا بَلى جَوَابٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَفُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ [30] .
وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ إِمَّا حَقِيقَةً فَذَلِكَ قَوْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَإِمَّا مَجَازًا عَلَى دَلَالَةِ حَالِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا أُطْلِقَ الْقَوْلُ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] أَيْ ظَهَرَتْ فِيهِمَا آثَارُ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ:
قَالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ رَاشِدًا ... إِنَّكَ لَا تَرْجِعُ إِلَّا حَامِدًا
فَهُوَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وبَلى حَرْفُ جَوَابٍ لِكَلَامٍ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، فَيَقْتَضِي إِبْطَالَ النَّفْيِ وَتَقْرِيرَ الْمَنْفِيِّ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ بِهَا بَعْدَ النَّفْيِ أَصْرَحَ مِنَ الْجَوَابِ بِحَرْفِ (نَعَمْ) ، لِأَنَّ نَعَمْ تَحْتَمِلُ تَقْرِيرَ النَّفْيِ وَتَقْرِيرَ الْمَنْفِيِّ، وَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ

الصفحة 168