كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ ذَكَرَهَا الْفَخْرُ، وَأَنَا لَا أَرَاهَا مُلَاقِيَةً لِإِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهَا.
وَجُمْلَةُ: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْمُلْحِدِينَ،
فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ لَا تَهْتَمُّوا بِإِلْحَادِهِمْ وَلَا تَحْزَنُوا لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَسُمِّيَ إِلْحَادُهُمْ عَمَلًا لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ أَيْ سَيُجْزَوْنَ بِجَمِيعِ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِلْحَادُهُمْ فِي أَسْمَائِهِ.
وَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِي تفِيد تَأْكِيد.
وَقِيلَ: مَا كانُوا يَعْمَلُونَ دُونَ مَا عَمِلُوا أَوْ مَا يَعْمَلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سُنَّةٌ لَهُمْ ومتجدد مِنْهُم.
[181- 183]

[سُورَة الْأَعْرَاف (7) : الْآيَات 181 إِلَى 183]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الْأَعْرَاف: 179] الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ: التَّنْوِيهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ضلالهم، أَي عرّض عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاكَ عَنْهُم بِالْمُسْلِمين، فَمَا صدق «الْأُمَّةِ» هُمُ الْمُسْلِمُونَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يُرِيدُ نَفْسَهُ فَإِنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ بَلَغَنَا أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِه الْآيَةَ: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا»
. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَبَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ عُرِفَ تَفْسِيرُهَا مِنْ نَظَرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

الصفحة 190