كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ إِلَى الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ أَوِ الْأَتْبَاعِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَعْنَى وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ أَيْ أَتْبَاعُهُمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: 27] أَمَّا الضَّمِيرَانِ الْمَرْفُوعَانِ فِي قَوْلِهِ: يَمُدُّونَهُمْ وَقَوْلِهِ: لَا يُقْصِرُونَ فَهُمَا عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِخْوانُهُمْ أَيِ الشَّيَاطِينِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْمَعْنَى: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ، فَجُمْلَةُ يَمُدُّونَهُمْ خَبَرٌ عَنْ إِخْوانُهُمْ وَقَدْ جَرَى الْخَبَرُ عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ وَلَمْ يَبْرُزْ فِيهِ ضَمِيرُ مَنْ هُوَ لَهُ حَيْثُ كَانَ اللّبْس مَا مونا وَهَذَا كَقَوْلِ يَزِيدَ بْنِ مُنْقِذٍ:
وَهُمْ إِذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِي كَوَاثِبِهَا ... فَوَارِسُ الْخَيْلِ لَا مِيلٌ وَلَا قَزَمُ
فَجُمْلَةُ «جَالُوا» خَبَرٌ عَنِ الْخَيْلِ وَضَمِيرُ «جَالُوا» عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ «وهم» لَا على الْخَيْلِ. وَقَوْلُهُ فَوَارِسُ خَبَرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِخْوَانِ الْأَوْلِيَاءَ وَيَكُونَ الضَّمِيرَانِ لِلْمُشْرِكِينَ أَيْضًا، أَيْ وَإِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، فَيَكُونُ «الْإِخْوَانُ» صَادِقًا بِالشَّيَاطِينِ كَمَا فَسَّرَ قَتَادَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، كَانَ الشَّيَاطِينُ إِخْوَانًا لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْإِخْوَةِ تَقْتَضِي جَانِبَيْنِ، وَصَادِقًا بِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَالْخَبَرُ جَارٍ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي مُجْتَمِعَةً فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِسَبَبِ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يَمُدُّونَهُمْ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ- مِنَ الْإِمْدَادِ وَهُوَ تَقْوِيَةُ الشَّيْءِ بِالْمَدَدِ وَالنَّجْدَةِ كَقَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشُّعَرَاء: 133] ، وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ:
يَمُدُّونَهُمْ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ- مِنْ مَدَّ الْحَبْلَ يَمُدُّهُ إِذَا طَوَّلَهُ، فَيُقَالُ: مَدَّ لَهُ إِذَا أَرْخَى لَهُ كَقَوْلِهِمْ: (مَدَّ اللَّهُ فِي عُمُرِكَ) وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ» «عَامَّةُ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ أَمْدَدْتُ عَلَى أفعلت كَقَوْلِه: أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 55] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطّور: 22] وأَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النَّمْل: 36] ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ يَجِيءُ عَلَى مَدَدْتُ قَالَ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَة: 15] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ فَتْحُ الْيَاءِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْقُرَّاءِ- وَالْوَجْهُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يُمِدُّونَهُمْ- أَيْ بِضَمِّ الْيَاءِ- أَنَّهُ مِثْلُ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: 21] (أَيْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ فِي الْغَيِّ كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ بِعَذَابٍ) وَقَدْ

الصفحة 235