كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ السَّامِعِينَ حِينَ نزُول الْآيَة.
و (الْأَنْفَال) جَمْعُ نَفَلَ- بِالتَّحْرِيكِ- وَالنَّفَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّافِلَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَطَاءِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْعَرَبُ فِي الْقَدِيمِ الْأَنْفَالَ عَلَى الْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَرْبِ هُوَ إِبَادَةُ الْأَعْدَاءِ، وَلِذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ صَنَادِيدُهُمْ يَأْبَوْنَ أَخْذَ الْغَنَائِمِ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
يُخْبِرُكِ مَنْ شَهِدَ الْوَقِيعَةَ أَنَّنِي ... أَغْشَى الْوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ
وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَإِطْلَاقُ الْأَنْفَالِ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ مَشْهُورٌ قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّا إِذا احمرا الْوَغَى نَرْوِي الْقَنَا ... وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ
وَقَدْ قَالَ فِي الْقَصِيدَةِ الْأُخْرَى:
وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ فَعَلَّمَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْأَنْفَالِ الْمَغَانِمَ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ الْأَسَدِيُّ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
نَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ثُمَّ جِئْتُمُو ... تَرْجُونَ أَنْفَالَ الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ
وَيَقُولُونَ نَفَّلَنِي كَذَا يُرِيدُونَ أَغْنَمَنِي، حَتَّى صَارَ النَّفَلُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُعْطَاهُ الْمُقَاتِلُ مِنَ الْمَغْنَمِ زِيَادَةً عَلَى قِسْطِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ لِمَزِيَّةٍ لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَالْغَنَاءِ أَوْ عَلَى مَا يَعْثُرُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَتِيلِهِ، وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْمَغَانِمِ.
فَالْمَغَانِمُ، إِذَنْ، تَنْقَسِمُ إِلَى: مَا قَصَدَ الْمُقَاتِلُ أَخْذَهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ مِثْلَ نَعَمِهِمْ، وَمِثْلَ مَا عَلَى الْقَتْلَى مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاتِلِ، وَفِيمَا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُقَاتِلُونَ مِمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِثْلَ لِبَاسِ قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَاحْتَمَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَغَانِمِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَا يُزَادُ لِلْمُقَاتِلِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ سُؤَالًا عَنْ تَنْفِيلٍ بِمَعْنَى زِيَادَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَكَى وُقُوعَ اخْتِلَافٍ فِي قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشَارِكَةَ فِي الْمَغْنَمِ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ تَنْفِيلٍ، فَيَبْقَى النَّفَلُ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَلِأَجْلِ التَّوَسُّعِ فِي أَلْفَاظِ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ تَرَدَّدَ السَّلَفُ فِي الْمَعْنِيِّ مِنَ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ «الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالدِّرْعُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: «وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ» وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقُوا النَّفَلَ أَيْضًا عَلَى مَا صَارَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِدُونِ انْتِزَاعٍ وَلَا افْتِكَاكٍ كَمَا يُوجَدُ الشَّيْءُ لَا يَعْرَفُ مَنْ

الصفحة 249