كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [102] .
وَآيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، سُمِّيَتْ آيَاتٌ، لِأَنَّ وَحْيَهَا إِلَى النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَجْزَ قَوْمِهِ، خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ آيَاتٌ.
وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ كُلُّهُ آيَةً أَيْضًا بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ جُمْلَتِهِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِلْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، وَهُوَ تِلَاوَتُهَا لِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِهَا فِي صَدْرِ غَيْرِ الْمَتْلُوَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْرَفِ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، إِذْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ كَيْفِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ
عَارِضَةٌ، لِلْيَقِينِ، لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ انْقِدَاحِهَا فِي الْعَقْلِ، وَغَايَةُ مَا يُعْرَفُ أَنْ يُقَالَ: ازْدَادَ إِيمَانُ فُلَانٍ، أَوِ ازْدَادَ فُلَانٌ إِيمَانًا، بِطَرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَحْوَالِ، كُلِّهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ لُوحِظَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الْكَلَامُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ عَقْلِيَّيْنِ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ من يَأْتِي بِالْفِعْلِ وَيَصْنَعُهُ كَالْكَاتِبِ لِلْكِتَابَةِ وَالضَّارِبِ بِالسَّيْفِ لِلْقَتْلِ.
وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ النَّفْسِ بِثُبُوتِ نِسْبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، أَوْ بِانْتِفَاءِ نِسْبَةِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، تَصْدِيقًا جَازِمًا لَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا فِي الْيَقِينِ بِالنِّسْبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ وُجُودَ اللَّهِ وَوُجُودَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْمُقْتَضِيَةُ مَجِيءَ رَسُولِ اللَّهِ مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَثُبُوتَ صِفَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي لَا يَتِمُّ مَعْنَى رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ بِدُونِهَا: مِثْلَ الصِّدْقِ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَالْعِصْمَةِ عَنِ اقْتِرَافِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: قُوَّةُ الْيَقِينِ فِي نَفْسِ الْمُوقِنِ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِيهَا، وَدَفْعِ الشَّكِّ الْعَارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى وَأَجْلَى مُقَدِّمَاتٍ كَانَ الْيَقِينُ أَقْوَى، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَتَفَاوُتُهَا تَدَرُّجٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى قِلَّةُ التَّدَرُّجِ فِي الْأَدِلَّةِ نَقْصًا لَكِنَّهُ نَقْصٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ أَصْلِ حَقِيقَةِ

الصفحة 257