كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

مَعْنَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الْحَقُّ ذَهَبَ الْبَاطِلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاء: 18] ، وَلَمَّا كَانَ الْبَاطِلُ ضِدَّ الْحَقِّ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ. وَمِنْ لَطَائِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: كَمْ سِنُّكَ فَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وُلِدْتُ يَوْمَ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَيُّ حَقٍّ رُفِعَ وَأَيُّ بَاطِلٍ وُضِعَ» أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ ذكر بَعْدَ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ لِيُحِقَّ الْحَقَّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: 140] .
وَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمِنْ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ، مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ ثُمَّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ- بِقَوْلِهِ- وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ شَرْطٌ اتِّصَالِيٌّ. ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يُرِيدُ اللَّهُ، أَوْ عَلَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ أَيْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصُدُّ مُرَادَهُ مَا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْ قُوَّةٍ بِأَنْ يَكْرَهَهُ الْمُجْرِمُونَ وهم الْمُشْركُونَ.
وَالْكَرَاهَة هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ لَوَازِمِهَا وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِمُقَاوَمَةِ الْمُرَادِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، يُرِيدُونَ إِحْقَاقَ الْبَاطِلِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَنْفُذُ بالرغم على كَرَاهَة الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْكَرَاهَةِ فَلَيْسَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَحْوَالِ نُفُوذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْقَاقَ الْحَقِّ: لِأَنَّهُ إِحْسَاسٌ قَاصِرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى مُدَافَعَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَانَتْ أَسْبَابُ الْمُدَافِعَةِ هِيَ الْغَايَةَ لِنُفُوذِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْكَارِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَوِ الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً فِي سُورَة الْبَقَرَة [170] .
[9]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 9]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
يَتَعَلَّقُ ظَرْفُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بِفِعْلِ يُرِيدُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: 7] لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُسْتَمِرٌّ تَعَلُّقُهَا

الصفحة 273