كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ: مِثْلِ وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: 22] وَمِثْلِ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] وَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ.
وَصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِنْ تَكْرِيرِهِمُ الدُّعَاءَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِكُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعُطِفَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى الْعِنَادِ وَالْقِتَالِ نَعُدْ، أَيْ نَعُدْ إِلَى هَزْمِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ لَا تَنْفَعُكُمْ جَمَاعَتُكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ وَاثِقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ: إِنْ تَعُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.
ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ عَلَى فِئَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَصَاحِبُ الْحَال المقترنة ب (لَو) الِاتِّصَالِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَضْمُونِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا الْعَوْدَ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ لِلْمُحِقِّ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى نَعُدْ وَلَا مَوْقِعَ لِجُمْلَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ فَإِنَّ فِئَتَهُمْ أَغْنَتْ عَنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْجَوَابُ عَن هَذَا إِشْكَال أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ بِأَدَاةِ شَرْطٍ مِمَّا يُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ (مَهْمَا) فَلَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّفُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ عَنْ حُصُولِ الشَّرْطِ فِي مَرَّةٍ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَضَى لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَصَرَهُمْ وَعَلِمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا ثُمَّ دَارَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرِحُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْهُ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَعُوقِبُوا بِالْهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 166]- وَقَالَ- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ

الصفحة 299