كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

يُعْلِمُهُمُ اللَّهُ صِدْقَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْقِعُ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَضْمُونِ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا إِلَّا عَلَى نَصْرِ اللَّهِ.
فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِتَعْلِيقِ مَجِيءِ الْفَتْحِ عَلَى أَنْ تَسْتَفْتِحُوا الْمُشْعِرِ بِأَنَّ النَّصْرَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْحُصُولِ إِلَّا إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَثُرَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، ولَوْ إِتِّصَالِيَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ مُتَّصِفٌ بِضِدِّ مَضْمُونِهَا، أَيْ: وَلَوْ كَثُرَتْ فَكَيْفَ وَفِئَتُكُمْ قَلِيلَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ إِيمَانُهُمْ. فَهَذَانِ تَفْسِيرَانِ لِلْآيَةِ وَالْوِجْدَانُ يَكُونُ كِلَاهُمَا مُرَادًا.
وَالْفَتْحُ حَقِيقَتُهُ إِزَالَةُ شَيْءٍ مَجْعُولٍ حَاجِزًا دُونَ شَيْءٍ آخَرَ، حِفْظًا لَهُ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ الِافْتِكَاكِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْجِدَارُ حَاجِزٌ، وَالْبَابُ حَاجِزٌ، وَالسَّدُّ حَاجِزٌ، وَالصُّنْدُوقُ حَاجِزٌ، وَالْعِدْلُ تَجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ حَاجِزٌ، فَإِذَا أُزِيلَ الْحَاجِزُ أَوْ فُرِّجَ فِيهِ فَرْجَةٌ يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى الْمَحْجُوزِ سُمِّيَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ فَتْحًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، إِذْ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَخْلُو عَنِ اعْتِبَارِهِ جَمِيعُ اسْتِعْمَالِ مَادَّةِ الْفَتْحِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُسْتَعَارُ لِإِعْطَاءِ الشَّيْءِ الْعَزِيزِ النَّوَالِ اسْتِعَارَةً مُفْرَدَةً أَوْ تَمْثِيلِيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [96] فَالِاسْتِفْتَاحُ هُنَا طَلَبُ الْفَتْحِ أَيِ النَّصْرِ، وَالْمَعْنَى إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ.
وَكَثُرَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى حُلُولِ قَوْمٍ بِأَرْضٍ أَوْ بَلَدِ غَيْرِهِمْ فِي حَرْبٍ أَوْ غَارَةٍ، وَعَلَى النَّصْرِ، وَعَلَى الْحُكْمِ، وَعَلَى مَعَانٍ أُخَرَ، عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ إِنْ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال:
18] .
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْآيَةِ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ يَصْلُحُ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِ الْمُذَيَّلِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى للمقدمة الصُّغْرَى.

الصفحة 301