كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

مِمَّا يُنَاسِبُ الْمُشَبَّهِينَ إِذْ هُوَ اسْمٌ مَوْصُولٌ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُشَبَّهِينَ كَمَا تَخَلَّصَ طَرَفَةُ فِي قَوْلِهِ:
خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي

وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا ... تَوَسَّطَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي
وشَرَّ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَصْلُهُ «أَشَرَّ» فحذفت همزته تخفيا كَمَا حُذِفَتْ هَمْزَةُ خَيْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 60] الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالدَّوَابِّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الدَّابَّةَ الصَّمَّاءَ الْبَكْمَاءَ أَخَسُّ الدَّوَابِّ.
عِنْدَ اللَّهِ قَيْدٌ أُرِيدَ بِهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقِ كَوْنِهِمْ، أَشَرَّ الدَّوَابِّ بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اصْطِلَاحٍ ادِّعَائِيٍّ، أَيْ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ فِي تُفَاضِلِ الْأَنْوَاعِ لَا فِي تَسَامُحِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَالْعُرْفُ يَعُدُّ الْإِنْسَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَالْحَقِيقَةُ تُفَصِّلُ حَالَاتِ الْإِنْسَانِ فَالْإِنْسَانُ الْمُنْتَفِعُ بِمَوَاهِبِهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ إِلَى الْكَمَالِ هُوَ بِحَقٍّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُجْمِ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي دَلَّى بِنَفْسِهِ إِلَى حَضِيضِ تَعْطِيلِ انْتِفَاعِهِ بِمَوَاهِبِهِ السَّامِيَّةِ يَصِيرُ أَحَطَّ مِنَ
الْعَجْمَاوَاتِ.
وَالْمُشَبَّهُونَ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، شُبِّهُوا بِالصُّمِّ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا لِأَنَّهُ مِمَّا يَكْفِي سَمَاعُهُ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَشُبِّهُوا بِالْبُكْمِ فِي انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ وَالْعَجْزِ عَنْ رَدِّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فهم مَا قبلوا وَلَا أَظْهَرُوا عُذْرًا عَنْ عَدَمِ قَبُولِهِ.
وَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِانْتِهَاءِ قَبُولِ الْمَعْقُولَاتِ وَالْعَجْزِ عَنِ النُّطْقِ بِالْحُجَّةِ أَتْبَعَهُ بِانْتِفَاءِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ أَيْ عَقْلُ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَلْهَ عَقْلَ التَّقَبُّلِ، وَقَدْ وُصِفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْقُرْآنِ كُلٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا إِنَّمَا عَنَى بِهِمْ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالُوا مَقَالَةً تَقْرُبُ مِمَّا جَاءَ فِي الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّوَابَّ مُشَبَّهٌ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ

الصفحة 306