كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

التَّنْبِيهَ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لِدُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
مُقْتَضَى ارْتِبَاطِ نَظْمِ الْكَلَامِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُرْتَبِطًا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ عَطْفُهَا عَلَيْهَا عَطْفُ التَّكْمِلَةِ عَلَى مَا تُكَمِّلُهُ، وَالْجُمْلَتَانِ مَجْعُولَتَانِ آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمُصْحَفِ.
وافتتحت الْجُمْلَة باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ وَحَثِّ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُفْتَتَحَ بَعْضُ الْجُمَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى خَبَرٍ أَوْ طلب فهم بِأَعْلَم أَوْ تَعَلَّمْ لَفْتًا لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ غَالِبًا بِغَفْلَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُخْبِرَ أَوِ الطَّالِبَ مَا يُرِيدُ إِلَّا عِلْمَ الْمُخَاطَبِ فَالتَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَقْصُودٌ لِلِاهْتِمَامِ، قَالَ تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: 196]- وَقَالَ- اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الْحَدِيد: 20] الْآيَةَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ، بَعْدَ هَذِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 25]
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ: أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»
وَقَدْ يَفْتَتِحُونَ بِتَعَلَّمْ أَوْ تَعَلَّمْنَ قَالَ زُهَيْرٌ:
قُلْتُ تَعَلَّمْ أَنَّ لِلصَّيْدِ غِرَّةً ... وَإِلَّا تُضَيِّعْهَا فَإِنَّكَ قَاتِلُهُ
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ سَيَّارٍ:
تَعَلَّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرُ عَدُوِّهَا ... فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمُ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وأَنَّ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ مَعَ إِفَادَةِ (أَنَّ) التَّأْكِيدَ.
والحول، وَيُقَال الحؤل: مَنْعُ شَيْءٍ اتِّصَالًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ [هود: 43] .

الصفحة 314