كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إِلَّا تَعَلُّقُ شَأْن من شؤون اللَّهِ بِالْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَيْ جُثْمَانِهِ وَعَقْلِهِ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا، مِثْلَ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ وَدَعْوَةِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَمَا يَكُونُ تَحَوُّلٌ إِلَّا إِلَى أَحَدِهِمَا لَا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا كَالطَّبَائِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْويل وَلَيْسَ حؤلا.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمُ (أَنَّ) ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَلِإِجْرَاءِ أُسْلُوبِ
الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ إِلَخْ.
وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُحْشَرُونَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ أَيْ: إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ، وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ لِلْكِنَايَةِ عَنِ انْعِدَامِ مَلْجَأٍ أَوْ مَخْبَأٍ تَلْتَجِئُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ فَكَنَّى عَنِ انْتِفَاءِ الْمَكَانِ بِانْتِفَاءِ مَحْشُورٍ إِلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ بِأَبْدَعِ أُسْلُوبٍ، وَلَيْسَ الِاخْتِصَاصُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا مُقْتَضَى لِقَصْرِ الْحَشْرِ عَلَى الْكَوْنِ إِلَى اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم.
[25]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 25]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)
عَقِبَ تَحْرِيضِ جَمِيعِهِمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ، الْمُسْتَلْزَمِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ ضِدِّهَا بِتَحْذِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى مِنْ جَرَّاءِ فِعْلِ غَيْرِهِمْ إِذَا هُمْ لَمْ يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَوْمِهِمْ، كَيْلَا يَحْسَبُوا أَنَّ امْتِثَالَهُمْ كَافٍ إِذَا عَصَى دَهْمَاؤُهُمْ، فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَةً تَلْحَقُهُمْ فَتَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ.
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَبَّ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاخْتَلَّ نِظَامُ جَمَاعَتِهِمْ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ الْحَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِتْنَةِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْفِتْنَةِ يَرْجِعُ إِلَى اضْطِرَابِ الْآرَاءِ، وَاخْتِلَالِ السَّيْرِ، وَحُلُولِ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

الصفحة 316