كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَالَ مَقْصُودٌ لِلْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى وَتَحَقُّقِ فَائِدَتِهَا وَالتَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهَا، فَلَا يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ وَلَا الْمَغْفِرَةُ بِأَيِّ احْتِمَالٍ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ مَنَافِعَ أُخْرَى لَهُمْ مِنْ جراء التَّقْوَى.
[30]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ تَأْيِيدِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ إِذْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَال:
26] فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (اذْكُرُوا) مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَال: 26] ، فَإِنَّ الْمَكْرَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكْرٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا. فَهَذَا تَعْدَادٌ لِنِعَمِ النَّصْرِ، الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فِي أَحْوَالٍ مَا كَانَ يَظُنُّ النَّاسُ أَنْ سَيَجِدُوا مِنْهَا مَخْلَصًا، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِنْعَامُ بِحَيَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ نِعْمَةٌ تَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِأَيَّامِ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، وَمَا لَاقَاهُ الْمُسْلِمُونَ عُمُومًا وَمَا لَاقَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا وَأَنَّ سَلَامَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَةٌ لِأُمَّتِهِ.
وَالْمَكْرُ إِيقَاعُ الضُّرِّ خُفْيَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي آلِ عِمْرَانَ [54] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [99] .
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ مَعَ إِذْ اسْتِحْضَارٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي دَبَّرُوا فِيهَا الْمَكْرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر:
9] .
وَمَعْنَى: لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوكَ يُقَالُ أَثْبَتَهُ إِذَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَأَوْثَقَهُ، وَالتَّعْبِيرُ بالمضارع فِي لِيُثْبِتُوكَ، ويَقْتُلُوكَ، ويُخْرِجُوكَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ الْمَكْرِ إِذْ غَايَةُ مَكْرِهِمْ تَحْصِيلُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى تَرَدُّدِ قُرَيْشٍ فِي أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اجْتَمَعُوا

الصفحة 327