كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

«الأساطير» جَمْعُ أُسْطُورَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] .
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وجوابها إِذْ جُعِلَ شَرْطُهَا مُضَارِعًا وَالْجَزَاءُ مَاضِيًا جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي (لَوْ) غَالِبًا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمَاضِي فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ جُزْأَيْ جُمْلَتِهَا مَاضِيًا، أَوْ كِلَاهُمَا. فَإِذَا أُرِيدَ التَّفَنُّنَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا، فَالتَّقْدِيرُ: لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ احْتِبَاكًا قَائِمًا مَقَامَ شَرْطَيْنِ وَجَزَاءَيْنِ فَإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالْأُخْرَى مَاضِيَةٌ، فَالتَّقْدِيرُ لَوْ نَشَاءُ أَنْ نَقُولَ نَقُولُ، وَلَوْ شِئْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَاضِي لَقُلْنَا فِيهِ، فَذَلِكَ أَوْعَبُ لِلْأَزْمَانِ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السَّجْدَة: 13]- وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرَّعْد: 31] فَهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا ادَّعَوُا الْقُدْرَةَ عَلَى قَوْلٍ مِثْلِهِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إِغْرَاقًا فِي النفاجة والوقاحة.
[32، 33]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 32 إِلَى 33]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
عُطِفَ عَلَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: 30] أَوْ عَلَى قالُوا قَدْ سَمِعْنا [الْأَنْفَال: 31] وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَاحِبُ الْمَقَالَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَهَا أَيْضًا أَبُو جَهْلٍ وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أُسْنِدَ لَهُ قَوْلُ النَّضِرِ قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: 31] فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ هُنَالِكَ مِنْ حِكَايَةِ الْمَعْنَى.
وَكَلَامُهُمْ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْقَسَمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ بِطَرِيقَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا كَانَ مَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ مَا يَحْكُونَهُ أَوْ يَعْتَقِدُونَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَجَابَةً، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ شَهِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ:
مَا إِنْ أَتَيْتُ بِشَيْءٍ أَنْتَ تَكْرَهُهُ ... إِذَنْ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ يَدِي

الصفحة 331