كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 9)

وَقَالَ مَعْدَانُ بْنُ جَوَّاسٍ الْكِنْدِيُّ، أَوْ حُجَيَّةُ بْنُ الْمُضَرِّبِ السَّكُونِيُّ:
إِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ عَنِّي فَلَامَنِي ... صَدِيقِي وَشَلَّتْ مِنْ يَدَيَّ الْأَنَامِلُ

وَكُفِّنْتُ وَحْدِي مُنْذَرًا بِرِدَائِهِ ... وَصَادَفَ حَوْطًا مِنْ أَعَادِيَّ قَاتِلُ
وَقَالَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ:
بُقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ

إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نَهَابِ نُفُوسِ
وَقَدْ ضَمَّنَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الْعَاشِرَةِ» هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حِكَايَةِ يَمِينٍ وَجَّهَهَا أَبُو زَيْدٍ السُّرُوجِيُّ عَلَى غُلَامِهِ الْمَزْعُومِ لَدَى وَالِي رَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ حَتَّى اضْطُرَّ الْغُلَامُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: «الِاصْطِلَاءُ بِالْبَلِيَّةِ، وَلَا الِابْتِلَاءُ بِهَذِهِ الْأَلِيَّةِ» .
فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِنْ عِنْدِكَ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَأَصِبْنَا بِالْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ وَلَيْسَ الشَّرْطُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يُفِيدَ تَرَدُّدَهُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ كَانُوا لِجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّى لِمُخَاطَرَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلُوهُ أَنْ يُمْطِرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنْهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا لِقَوْمِهِمْ صِحَّةَ جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ فَأَعْلَنُوا الدُّعَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ
عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، فَهُمْ غَيْرُ جَازِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَمُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ بَلْ هُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ أَخَصُّ مِنْ عَدَمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ حَقٌّ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ فَهُوَ يَقْتَضِي تَقَوِّي الْخَبَرِ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا وَمِنْ عِنْدِكَ بِلَا شَكٍّ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَاجْتَمَعَ فِي التَّرْكِيبِ تَقَوٍّ وَحَصْرٌ وَذَلِكَ تَعْبِيرُهُمْ يَحْكُونَ بِهِ أَقْوَالَ الْقُرْآنِ الْمُنَوِّهَةَ بِصِدْقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمرَان: 62]

الصفحة 332