كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 10)

[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ عَلَى جُمْلَةِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التَّوْبَة:
86] ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، فَالْمُرَادُ بِالْمُعَذِّرِينَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَكَثِيرٌ. وَجَعَلُوا مِنْ هَؤُلَاءِ غِفَارًا، وَخَالَفَهُمْ قَتَادَةُ فَجَعَلَهُمُ الْمُعْتَذِرِينَ كَذِبًا، وَهُمْ بَنُو عَامِرٍ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ خَرَجْنَا مَعَكَ أَغَارَتْ أَعْرَابُ طَيِّءٍ عَلَى بُيُوتِنَا. وَمِنَ الْمُعَذِّرِينَ الْكَاذِبِينَ أَسَدٌ، وَغَطَفَانُ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي التَّفْسِيرِ يَخْتَلِفُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: الْمُعَذِّرُونَ فَإِنْ كَانُوا الْمُحِقِّينَ فِي الْعُذْرِ فَتَقْدِيرُ الْمُعَذِّرُونَ أَنَّ أَصْلَهُ الْمُعْتَذِرُونَ، مِنِ اعْتَذَرَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ الْمَخْرَجَيْنِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ، كَمَا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: 49] ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ.
وَإِنْ كَانُوا الْكَاذِبِينَ فِي عُذْرِهِمْ فَتَقْدِيرُ الْمُعَذِّرُونَ: أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَذَّرَ بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْعُذْرَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْتَذِرُونَ بِلَا عُذْرٍ فَكَأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُعَذِّرَ بِالتَّشْدِيدِ هُوَ الْمَظْهِرُ لِلْعُذْرِ اعْتِلَالًا وَهُوَ لَا عُذْرَ لَهُ اه. وَقَالَ شَارِحُ «دِيوَانِ النَّابِغَةِ» عِنْدَ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَدِّعْ أُمَامَةَ وَالتَّوْدِيعُ تَعْذِيرُ أَيْ لَا يَجِدُ عُذْرًا غَيْرَ التَّوْدِيعِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُعَذِّرِينَ مِنْ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ لِتَشْمَلَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الْعُذْرِ وَالَّذِينَ كَذَبُوا فِيهِ.
وَالِاعْتِذَارُ افْتِعَالٌ مِنْ بَابِ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مَادَّةُ الِافْتِعَالِ لِلتَّكَلُّفِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّصَرُّفِ
مِثْلُ الِاكْتِسَابِ وَالِاخْتِلَاقِ. وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَزِيدِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بِمَعْنَاهُ وَإِنَّمَا الْمُجَرَّدُ هُوَ عَذَرَ

الصفحة 292