كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 10)

وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي آلِ عِمْرَانَ فَلِكَوْنِ التَّكْذِيبِ تَكْذِيبًا لِآيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى ثُبُوتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّكَلُّمِ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا، دُونَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] ، فَلِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ قُوَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى لَازِمِهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الضُّرِّ بِهِمْ، وَيُنْكِرُونَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُمْ، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ التَّعْرِيضِيِّ الَّذِي هُوَ إِبْلَاغُ هَذَا الْإِنْذَارِ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [11] لَمْ يُقْصَدْ إِلَّا الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ إِذَا عَاقَبَ، فَهُوَ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، عَقِبَهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: 12] الْآيَةَ.
وَزِيدَ وَصْفُ «قَوِيٌّ» هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَالْقَوِيُّ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ، وَحَقِيقَتُهَا كَمَالُ صَلَابَةِ الْأَعْضَاءِ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرَادُ مِنْهَا، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: 145] . وَهِيَ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا اللزومي وَهِي مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِ مَا تتعلّق بِهِ إِرَادَته تَعَالَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ كَانَ قَوِيًّا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ عِقَابُ قَوِيٍّ شَدِيدِ الْعِقَابِ، كَقَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: 42] ، وَقَوْلِهِ:
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] .
[53]

[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 53]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: 52] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا إِلَخْ أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تَسَبَّبُوا بِهَا فِي زَوَالِ نِعْمَتِهِمْ.

الصفحة 44