كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

صَارَ بِمَنْزِلَةِ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِالنَّوْعِ الْمَقْصُودِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالِكُ الْقَاهِرُ لِجَمِيعِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَوْنُهُ مَالِكًا لِلْكُلِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفُوتَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُ قَاهِرًا لَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْجِزَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ تَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِتَوَكُّلِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِإِجْرَاءِ أَفْعَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالتَّأْيِيدِ لِرُسُلِهِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ الِاتِّصَافُ الرَّاسِخُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُسْتَعَارٌ لِلْفِعْلِ الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ يُشَبَّهُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالسَّوَاءِ. قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: 43] . فَلَا جَرَمَ لَا يُسْلِمُ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ للظّالمين.
[57]

[سُورَة هود (11) : آيَة 57]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] . وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَوْجَبَهُ قَصْدُ الْمُبَادَرَةِ بِإِبْطَالِ بَاطِلِهِمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: 54] بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، فَهُوَ مُضَارِعٌ، وَهُوَ خِطَابُ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِجْرَاءِ الضَّمَائِرِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.

الصفحة 101