كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِهِمْ، تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُمْ سَلَفُهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَعَلَى أَنَّهُمُ اقْتَدَوْا بِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَعْلُولُ، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَعْنَى كَافِ التَّشْبِيهِ لِذَلِكَ. فَالْمَعْنَى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا وَفَّيْنَا أَسْلَافَهُمْ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِكْمَالُ الشَّيْءِ غَيْرِ مَنْقُوصٍ.
وَالنَّصِيبُ: أَصْلُهُ الْحَظُّ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ (مُوَفُّوهُمْ) وَ (نَصِيبَهُمْ) هُنَا اسْتِعْمَالًا تَهَكُّمِيًّا كَأَنَّ لَهُمْ عَطَاءً يَسْأَلُونَهُ فَوُفُّوهُ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِتَحْقِيقِ التَّوْفِيَةِ زِيَادَةً فِي التَّهَكُّمِ، لِأَنَّ مِنْ إِكْرَامِ الْمَوْعُودِ بِالْعَطَاءِ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُ الْوَعْدُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْبِشَارَةِ.
وَالْمُرَادُ نَصِيبُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ كَمَا اسْتَأْصَلَ الْأُمَمَ السَّابِقَة ببركة
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
. [110]

[سُورَة هود (11) : آيَة 110]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
اعْتِرَاض لتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَأْسَ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْمِكَ عَلَيْكَ،
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: 109] .
وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّثْبِيتِ فَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] .
وَقَوْلُهُ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَمَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ اخْتِلَافُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ فِي تَقْرِيرِ بَعْضِهَا وَإِبْطَالِ بَعْضٍ، وَفِي إِظْهَارِ بَعْضِهَا

الصفحة 169