كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

وَفِي بَلَاغَةِ نَظْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا مِنَ الْإِعْجَازِ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ أَلْقَاهُ إِلَى رَسُولِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْجِزَةً لَهُ عَلَى قَوْمِهِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ.
وَالسَّائِلُونَ: مُرَادٌ مِنْهُمْ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ السُّؤَالُ عَنِ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [سُورَة فصلت: 10] . وَمِثْلَ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلتَّشْوِيقِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَطَلُّبِ الْخَبَرِ وَالْقِصَّةِ. قَالَ طَرَفَةُ:
سَائِلُوا عَنَّا الَّذِي يَعْرِفُنَا ... بِقُوَانَا يَوْمَ تَحْلَاقِ اللمم
وَقَالَ السموأل أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ ... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:
طُلِّقْتِ إِنْ لَمْ تَسْأَلِي أَيُّ فَارِسٍ ... حَلِيلُكِ إِذْ لَاقَى صُدَاءً وَخَثْعَمَا
وَقَالَ أَنِيفُ بْنُ زِبَّانَ النَّبْهَانِيُّ:
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيْنَ السَّيْفِ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا
وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ يَكُونُ تَوْجِيهُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأُنْثَى، لِأَنَّ النِّسَاءَ يُعْنَيْنَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا، وَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ وَكَانَتْ أَخْبَارُهُ الَّتِي يُشَوِّقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَخْبَارُ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ صَرَفَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ عَنِ التَّوْجِيهِ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [سُورَة المعارج: 1] وَقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [سُورَة النبأ: 1] .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ (السَّائِلِينَ) الْيَهُودُ إِذْ سَأَلَ فريق مِنْهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ مُخَالَطَةٌ للْمُسلمين بِمَكَّة.

الصفحة 219