كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَحْسَبُوا أَيْضًا أَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ فَأُوقِظُوا مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: 196، 197] .
وَفِعْلُ الشَّرْطِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ يُفِيدُ اقْتِصَارَ الْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إِذْ حُصِرَ أَمْرُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَهُوَ مَعْنَى الْخُلُودِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: 18، 19] .
فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ لَا يَطْلُبُ إِلَّا مَنَافِعَ الْحَيَاةِ وَزِينَتَهَا. وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ إِرَادَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَمَا آمَنَ إِلَّا لِذَلِكَ، فَمَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا فِي حَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا النبيء قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الْأَحْزَاب: 28، 29] فَذَلِكَ فِي مَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي الْحَيَاةِ وَزِينَتِهَا وَهُوَ تَرَفُ الْعَيْشِ وَزِينَةُ اللِّبَاسِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيه إِعْرَاضُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ التَّرَفِ وَتِلْكَ الزِّينَةِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَقْوَامُ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، أَيْ نَجْعَلُ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَافِيَةً وَمَعْنَى وَفَائِهَا أَنَّهَا غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ تَكَالِيفِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ نُقْصَانٍ فِي تَمَتُّعِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ

الصفحة 23