كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، خَشْيَةً مِنْهَا، أَوْ مَوَدَّةً لَهَا، فَاقْتَصَرْنَ عَلَى جَوَابِ مَا سُئِلْنَ عَنْهُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ النسْوَة اللَّاتِي أَحْضَرَهُنَّ الْمَلِكُ. وَلَمْ يَشْمَلْهَا قَوْلُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [سُورَة يُوسُف: 5] لِأَنَّهَا لَمْ تَقْطَعْ يَدَهَا مَعَهُنَّ، وَلَكِنْ شَمَلَهَا كَلَامُ الْمَلِكِ إِذْ قَالَ:
إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُرَاوَدَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ مِنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ دُونَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي أَعَدَّتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ.
وَجُمْلَةُ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مَفْصُولَةٌ لِأَنَّهَا حِكَايَةُ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالِ الْمَلِكِ.
وَالْآنَ: ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [66] .
وحَصْحَصَ: ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ.
والْحَقُّ: هُوَ بَرَاءَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِمَّا رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلَّ قِيلَ وَقَالَ وَشَكٍّ، فَزَالَ ذَلِكَ بِاعْتِرَافِهَا بِمَا وَقَعَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا مِنْ إِقْرَارِهَا الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِأَنَّهُ قَرِيبُ الْوُقُوعِ فَهُوَ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنَ الْمُضِيِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِقَوْلِ النِّسْوَةِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فَيَكُونُ الْمَاضِي عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الزَّمَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيِ الْآنَ لَا قبله للدلالة عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ زَمَنٌ بَاطِلٌ وَهُوَ زَمَنُ تُهْمَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْمُرَاوَدَةِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ تَعْيِينٍ إِذْ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَدْرِي أَيُّ الْوَقْتَيْنِ وَقْتُ الصِّدْقِ أَهُوَ وَقْتُ اعْتِرَافِ النِّسْوَةِ بِنَزَاهَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْ هُوَ وَقْتُ رَمْيِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ إِيَّاهُ بِالْمُرَاوَدَةِ.

الصفحة 291