كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

وَضَمِيرَا الْغَيْبَةِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضمير افْتَراهُ [هود: 13] .
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ مِنْ أَنه لوضوح حَقِيقَته لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْتَرَى فِي صِدْقِهِ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِاعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ مِنَ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَهِيَ مُرَادِفَةُ الِامْتِرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ. وَاخْتِيرَ النَّهْيُ عَلَى الْمِرْيَةِ دُونَ النَّهْيِ عَنِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِامْتِرَاءِ فِيهِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْجَزْمِ بِالْكَذِبِ بِالْأَوْلَى، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْيَقِينِ بِكَذِبِ الْقُرْآنِ أَشَدُّ ذَمًّا وَشَنَاعَةً.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ فِي شكّ ناشىء عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الشَّكُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَكًّا فِي ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ لِأَن حَقِيقَة القرآنية أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالشَّكُّ النَّاشِئُ عَلَى نُزُولِهِ شَكٌّ فِي مَجْمُوعِ حَقِيقَتِهِ. وَهَذَا مِثْلُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَقْدِير مُضَاف يؤول بِهِ إِلَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُرَادِ أَوْصَافُهَا.
وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ جِنْسِ الْحَقِّ عَلَى الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْحَقِّ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ حَقٌّ غَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِكَ: حَاتِمٌ الْجَوَادُ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ناشيء عَلَى حُكْمِ الْحَصْرِ، فَإِنَّ الْحَصْرَ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُرَادَ انْتِفَاءُ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَا طُلِبَ الْإِيمَانُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، أَيْ أَنَّ فِي طِبَاعِ أَكْثَرِ النَّاسِ تَغْلِيبُ الْهَوَى عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ لم يُؤمنُوا.

الصفحة 31