كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

وَإِعَادَةُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: 18] لِتَقْرِيرِ فَائِدَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ السَّابِقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِيهِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَى شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِمْهَالَهُمْ.
وَالْمُعْجِزُ هُنَا الَّذِي أَفْلَتَ مِمَّنْ يَرُومُ إِضْرَارَهُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [134] .
وَالْأَرْضُ: الدُّنْيَا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ لَوْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَوْضِعًا مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَعْصِمُونَ بِهِ. فَهَذَا نفي للملاجيء وَالْمَعَاقِلِ الَّتِي يَسْتَعْصِمُ فِيهَا الْهَارِبُ. وَعِنْدِي أَنَّ مُقَارَنَةَ (فِي الْأَرْضِ) بِ (مُعْجِزِينَ) جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْقُرْآنِ
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَحْقَاف: 32] وَلَعَلَّهُ مِمَّا جَرَى كَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُ إِيَاسِ بن قُبَيْصَةَ الطَّائِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَنْصَارُ، أَيْ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَجَمَعَ لَهُمْ نَفْيَ سَبَبَيْ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَادِرِ وَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْقَادِرُ أَوْ مُعَارَضَةُ قَادِرٍ آخَرَ إِيَّاهُ يَمْنَعُهُ مِنْ تَسْلِيطِ عِقَابِهِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَوْلِيَاءَ) لِمَا فِي الْوَلِيِّ هُنَا مِنْ مَعَانِي الْحَائِلِ وَالْمُبَاعِدِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: 119] .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تَوَلَّوْهَا، أَيْ أَخْلَصُوا لَهَا الْمَحَبَّةَ وَالْعِبَادَةَ.

الصفحة 35