كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

فَقَدْ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ كَالظِّبَاءِ وَالْمَهَا وَالطَّوَاوِيسِ، فَإِنِ ارْتَقَوْا عَلَى ذَلِكَ تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ وَإِجَادَةِ الرِّمَايَةِ وَالْمُجَالَدَةِ وَالشَّجَاعَةِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِأَنْ تُعَدَّ فِي أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَلَكِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّهَا آلَاتٌ لِإِنْقَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَبِدُونِ ذَلِكَ تَكُونُ آلَاتٍ لِإِنْفَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّيِّئَةِ مِثْلَ شَجَاعَةِ أَهْلِ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالشُّطَّارِ، وَمِثْلَ الْقُوَّةِ عَلَى خَلْعِ الْأَبْوَابِ لِاقْتِحَامِ مَنَازِلِ الْآمِنِينَ.
وَإِنَّمَا الْكَمَالُ الْحَقُّ هُوَ زَكَاءُ النَّفْسِ وَاسْتِقَامَةِ الْعَقْلِ، فَهُمَا السَّبَبُ الْمُطَّرِدُ لِإِيصَالِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَهُمَا تَكُونُ الْقُوَى الْمُنَفِّذَةُ خَادِمَةً كَالشَّجَاعَةِ لِلْمُدَافِعِينَ عَنِ الْحَقِّ وَالْمُلْجِئِينَ لِلطُّغَاةِ عَلَى الْخُنُوعِ إِلَى الدِّينِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ وَغَيْبَةِ الصَّوَابِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْمَعْصُومِ، وَهُوَ مَقَامُ النُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ.
فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مَنْ قَوْمِ نُوحٍ لَمَّا قَصَّرُوا عَنْ إِدْرَاكِ أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَتَطَلَّبُوا الْأَسْبَابَ مِنْ غَيْرِ مَكَانِهَا نَظَرُوا نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مِنْ جِنْسِ غَيْرِ الْبَشَرِ، وَتَأَمَّلُوهُ وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْا فِي أَجْسَامِهِمْ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ مَنْ هُمْ أَجْمَلُ وُجُوهًا أَوْ أَطْوَلُ أَجْسَامًا.
مِنْ أجل ذَلِك أخطأوا الِاسْتِدْلَالَ فَقَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فَأَسْنَدُوا الِاسْتِدْلَالَ إِلَى الرُّؤْيَةِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اسْتِدْلَالَهُمْ ضَرُورِيًّا مِنَ الْمَحْسُوسِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ، أَيْ مَا نَرَاكَ غَيْرَ إِنْسَانٍ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لِلنَّاسِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمْ
جَوَارِحَ أَوْ قَوَائِمَ زَائِدَةً.
وَالْبَشَرُ- مُحَرَّكَةً-: الْإِنْسَانُ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا. قَالَ الرَّاغِبُ: «عَبَّرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِالْبَشَرِ اعْتِبَارًا بِظُهُورِ بَشَرَتَهُ وَهِيَ جِلْدُهُ مِنَ الشَّعْرِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ» أَيْ وَالرِّيشُ. وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ

الصفحة 47