كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

وَجَعَلَ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا فِي حَرْفِ الشَّرْطِ مِنْ مَعْنَى الزَّمَانِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَحَصَلَ مَعْنَى الْغَايَةِ عِنْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَظْمٌ بَدِيعٌ بِإِيجَازِهِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَمْرَ التَّكْوِينِ بِالطُّوفَانِ، وَيَحْتَمِلُ الشَّأْنَ وَهُوَ حَادِثُ الْغَرَقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِهِ بِأَنَّهُ فَوْقَ مَا يَعْرِفُونَ.
وَمَجِيءُ الْأَمْرِ: حُصُولُهُ.
وَالْفَوَرَانُ: غَلَيَانُ الْقِدْرِ، وَيُطْلِقُ عَلَى نَبْعِ الْمَاءِ بِشِدَّةٍ، تَشْبِيهًا بِفَوَرَانِ مَاءٍ فِي الْقِدْرِ إِذَا غَلِيَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: 12] . وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُمْ إِسْنَادُهُ إِلَى التَّنُّورِ، فَإِنَّ التَّنُّورَ هُوَ الْمَوْقِدُ الَّذِي يَنْضَجُ فِيهِ الْخُبْزُ، فَكَثُرَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ التَّنُّورِ، بَلَغَتْ نِسْبَةُ أَقْوَالٍ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي قَبُولُهُ. وَمِنْهَا مَا لَهُ وَجْهٌ وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ.
فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَبْقَى التَّنُّورَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَجَعَلَ الْفَوَرَانَ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنْ أَحَدِ التَّنَانِيرِ وَأَنَّهُ عَلَامَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا فَارَ الْمَاءُ مِنْ تَنُّورِهِ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأَ الطُّوفَانِ فَرَكِبَ الْفُلْكَ وَأَرْكَبَ مَنْ مَعَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ التَّنُّورَ عَلَى الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ فَفَسَّرَهُ بِسَطْحِ الْأَرْضِ، أَيْ فَارَ الْمَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ بِسَطْحِ الْأَرْضِ كَفُوَّهَةِ التَّنُّورِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَعْلَى الْأَرْضِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ فارَ والتَّنُّورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ لِاشْتِدَادِ الْحَالِ، كَمَا يُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ. وَقَعَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فِي

الصفحة 70