كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غَرَقِ مَنْ غَرِقُوا، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لِابْنِهِ وَأَنْ لَا يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ.
وَالنِّدَاءُ هَنَا نِدَاءُ دُعَاءٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَدَعَا نُوحٌ رَبَّهُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَصْدُرُ بِالنِّدَاءِ غَالِبًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَشْرِيفٌ لِنُوحٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى رَأْفَةِ اللَّهِ بِهِ وَأَنَّ نَهْيَهُ الْوَارِدَ بَعْدَهُ نَهْيُ عِتَابٍ.
وَجُمْلَةُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بَيَانٌ لِلنِّدَاءِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا تُعْطَفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا لَمْ يُعْطَفِ الْبَيَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 3، 4] ، وَخُولِفَ ذَلِكَ هُنَا. وَوَجَّهَ فِي «الْكَشَّافِ» اقْتِرَانَهُ بِالْفَاءِ بِأَنَّ فِعْلَ نَادَى مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ النِّدَاءِ، أَيْ مِثْلَ فِعْلِ (قُمْتُمْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ بَيَانٌ لِلنِّدَاءِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ نَادَى مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى إِرَادَةِ النِّدَاءِ، أَيْ أَرَادَ نِدَاءَ رَبِّهِ فَأَعْقَبَ إِرَادَتَهُ بِإِصْدَارِ النِّدَاءِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ النِّدَاءَ فَتَرَدَّدَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: 40] فَلَمْ يَطُلْ تَرَدُّدُهُ لَمَّا غَلَبَتْهُ الشَّفَقَةُ عَلَى ابْنِهِ فَأَقْدَمَ عَلَى نِدَاءِ، رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِاعْتِذَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. فَقَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاعْتِذَارِ وَالتَّمْهِيدِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالًا لَا يَدْرِي قَبُولَهُ وَلَكِنَّهُ اقْتَحَمَهُ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ فَلَهُ عُذْرُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ. وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 37] إِذْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِهِ قَدْ سَبَقَ

الصفحة 84