كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 12)

وَنِدَاءُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلتَّنْوِيهِ بِهِ بَيْنَ الْمَلَأِ.
وَالْهُبُوطُ: النُّزُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [61] .
وَالْمُرَادُ: النُّزُولُ مِنَ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ.
وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ، وَهُوَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ الْوَدَاعِ أَيْضًا، يَقُولُونَ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَخِطَابُهُ بِالسَّلَامِ حِينَئِذٍ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ كَانَ كَافِلًا لَهُ النَّجَاةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [الْقَمَر: 13، 14] .
وَأَصْلُ السَّلَامِ: السَّلَامَةُ، فَاسْتُعْمِلَ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِيذَانًا بِتَأْمِينِ الْمَرْءِ مُلَاقِيَهُ وَأَنَّهُ لَا يُضْمِرُ لَهُ سُوءًا، ثُمَّ شَاعَ فَصَارَ قَوْلًا عِنْدَ اللِّقَاءِ لِلْإِكْرَامِ. وَبِذَلِك نهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: اهْبِطْ بِسَلامٍ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الْحجر: 46] فَإِنَّ السَّلَامَ ظَاهِرٌ فِي التَّحِيَّةِ لِتَقْيِيدِهِ بِ (آمِنِينَ) . وَلَوْ كَانَ السَّلَامُ مُرَادًا بِهِ السَّلَامَةُ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِ (آمَنِينَ) تَوْكِيدًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
ومِنَّا تَأْكِيدٌ لِتَوْجِيهِ السَّلَامِ إِلَيْهِ لِأَنَّ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْمَعْنى: بِسَلام ناشىء مِنْ عِنْدِنَا، كَقَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَذَا التَّأْكِيدُ يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ الصِّلَةِ وَالْإِكْرَامِ فَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الَّذِي لَا تُذْكَرُ مَعَهُ (مِنْ) .
وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيِ اهْبِطْ مَصْحُوبًا بِسَلَامٍ مِنَّا. وَمُصَاحَبَةُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ مُصَاحِبَةٌ مَجَازِيَّةٌ.

الصفحة 89