كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 14)

وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى عَهْدِهِمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَإِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَهُمْ قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [سُورَة الْفَتْح: 10] ، وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [سُورَة الْأَحْزَاب: 23] . وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ.
وإِذا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الزَّمَانِ لِتَأْكِيدِ الْوَفَاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَاهَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ.
وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. [سُورَة النَّحْل: 91] وَالْعَهْدُ: الْحَلِفُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. وَكَذَلِكَ النَّقْضُ تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَنَقْضُ الْأَيْمَانِ: إِبْطَالُ مَا كَانَتْ لِأَجْلِهِ. فَالنَّقْضُ إِبْطَالُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا إِبْطَالُ الْقَسَمِ، فَجَعَلَ إِبْطَالَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَقْضًا لِلْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ تَهْوِيلًا وَتَغْلِيظًا لِلنَّقْضِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُرْمَةِ الْيَمِينِ.
وبَعْدَ تَوْكِيدِها زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ بِالْبَعْدِيَّةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَيْمَانٌ مَعْلُومَةٌ وَهِيَ أَيْمَانُ الْعَهْدِ وَالْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ فِيهَا بَعْدِيَّةٌ.
وبَعْدِ هُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) ، إِذِ الْبَعْدِيَّةُ وَالْمَعِيَّةُ أَثَرُهُمَا وَاحِدٌ هُنَا، وَهُوَ حُصُولُ تَوْثِيقِ الْأَيْمَانِ وَتَوْكِيدِهَا، كَقَوْلِ الشُّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ:
بَنِي عَمِّنَا لَا تَذكرُوا الشّعْر بعد مَا ... دَفَنْتُمْ بِصَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ الْقَوَافِيَا
أَيْ لَا تَذْكُرُوا أَنَّكُمْ شُعَرَاءُ وَأَنَّ لَكُمْ شِعْرًا، أَوْ لَا تَنْطِقُوا بِشِعْرٍ مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ فِي وَقْعَةِ صَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ (¬1) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [سُورَة الحجرات: 11] ، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.
¬_________
(¬1) وَهَذَا كِنَايَة عَن ترك قَول الشّعْر لِأَن أهم أغراض قَول الشّعْر قد تعطل فيهم.

الصفحة 261