كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 14)

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مُعْتَرِضَةٌ. وَهِيَ خَبَرٌ مُرَادٌ مِنْهُ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لِتَذْكِيرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ، فَالتَّوْكِيدُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِبِنَاءِ الْجُمْلَةِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ، وَلَا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ.
وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي يَعْلَمُ وَفِي تَفْعَلُونَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ كُلَّمَا فَعَلُوا فِعْلًا فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ كُلِّهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِلَى هُنَا تَأْكِيدُ الْوِصَايَةِ بِحِفْظِ عَهْدِ الْإِيمَانِ. وَعَدَمِ الِارْتِدَادِ إِلَى الْكُفْرِ، وَسَدِّ مَدَاخِلِ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نُفُوسِ
الْمُسْلِمِينَ، إِذْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ بِفُنُونِ الصَّدِّ، كَقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سُورَة سبأ: 35] ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [53] .
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى سَبَبٍ. وَذَكَرُوا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ [سُورَة النَّحْل: 106] أَنَّ آيَةَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ إِلَى آخِرِهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لَمَّا فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا سَيَأْتِي، فَجَعَلُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ اتِّصَالًا.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كَأَنَّ قَوْمًا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ لِجَزَعِهِمْ مَا رَأَوْا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ واستضعافهم الْمُسلمين وإيذائهم لَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا يَعِدُونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا مِنَ الْمَوَاعِيدِ أَنْ يَنْقُضُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ اه. يُرِيدُ أَنَّ لَهْجَةَ التَّحْذِيرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ [سُورَة النَّحْل: 92] تنبىء عَنْ حَالَةٍ مِنَ الْوَسْوَسَةِ دَاخَلَتْ قُلُوبَ بَعْضِ حَدِيثِي الْإِسْلَامِ فَنَبَّأَهُمُ اللَّهُ بِهَا وَحَذَّرَهُمْ مِنْهَا فَسَلمُوا.

الصفحة 263