كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 14)

[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 92]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
تشنيع لِحَالِ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ.
وَعَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [سُورَة النَّحْل: 91] .
وَاعْتَمَدَ الْعَطْفُ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ لِمَا فِي هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَوْقِعِ كَالتَّوْكِيدِ لِجُمْلَةِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ. نُهُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مَضْرِبَ مَثَلٍ مَعْرُوفٍ فِي الْعَرَبِ بِالِاسْتِهْزَاءِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا بَعْدَ شَدِّ فَتْلِهِ. فَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا امْرَأَةٌ اسْمُهَا رَيْطَةُ بنت سعد التيمية من بني تيم مِنْ قُرَيْشٍ. وَعَبَّرَ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِاشْتِهَارِهَا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَلِأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ، هُوَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا فِي هَذَا التَّمْثِيلِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَذْكُرُ فِيهِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ إِلَّا مَنِ اشْتُهِرَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ مِثْلُ جَالُوتَ وَقَارُونَ.
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهَا أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً خَرْقَاءَ مُخْتَلَّةَ الْعَقْلِ، وَلَهَا جَوَارٍ، وَقَدِ اتَّخَذَتْ
مِغْزَلًا قَدْرَ ذِرَاعٍ وَصِنَّارَةٍ مِثْلِ أُصْبُعٍ وَفَلْكَةٍ عَظِيمَةٍ (¬1) عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَغْزِلُ هِيَ وَجَوَارِيهَا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَتَنْقُضُ مَا غَزَلَتْهُ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ كُلَّ يَوْمٍ، فَكَانَ حَالُهَا إِفْسَادَ مَا كَانَ نَافِعًا مُحْكَمًا مِنْ عَمَلِهَا وَإِرْجَاعَهُ إِلَى عَدَمِ الصَّلَاحِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِهَا فِي نَقْضِهِمْ عَهْدَ اللَّهِ وَهُوَ عَهْدُ الْإِيمَانِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الرُّجُوعُ إِلَى فَسَادٍ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِصَلَاحٍ.
¬_________
(¬1) فلكة بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون اللَّام عود بأعلاه دَائِرَة مِنْهُ يلفّ عَلَيْهِ الْغَزل.

الصفحة 264