كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 14)

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةِ غَدْرِ الْعَهْدِ.
وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِارْتِدَادِ مُدَّةَ مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة. وَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ حِينَ ظَهَرَ النِّفَاقُ، فَكَانَتْ فَلْتَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَاحِدَةً فِي الْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ تَابَ وَقَبِلَ تَوْبَته النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[95، 96]

[سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 95 إِلَى 96]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ إِنْ رَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ وَهَنَاءِ عَيْشٍ.
وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ مَا فَاتَهُمْ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مَنَافِعَ عِنْدَ قَوْمِ الشِّرْكِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [سُورَة النَّحْل: 91] وَعَلَى جُمْلَةِ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [سُورَة النَّحْل: 94] لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَرَضٍ خَاصٍّ مِمَّا قَدْ يَبْعَثُ عَلَى النَّقْضِ.
وَالثَّمَنُ: الْعِوَضُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُعَاوِضُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [41] . وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ قَلِيلًا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ وَلَيْسَتْ مُقَيَّدَةً، أَيْ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُؤْخَذُ عَنْ نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ هُوَ عِوَضٌ قَلِيلٌ وَلَوْ كَانَ أَعْظَمَ الْمُكْتَسَبَاتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ عِوَضِ الِاشْتِرَاءِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْقِلَّةِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ.

الصفحة 270